الغناء 1
هو رفع الصوت مطلقاً، ويطلق على الترنم، والحداء، والإنشاد.
ينقسم الغناء اليوم إلى قسمين
1. ما اعتاده الناس من الإنشاد والحداء، وما يكون في المناسبات، والأعياد، والختان، وعند قدوم الغائب ونحو ذلك، إذا خلا من الفحش وذكر المحرم، ولم تصحبه آلات موسيقية، فلا شك في جوازه، وهذا النوع هو الذي ينبغي أن تحمل عليه الأحاديث التي وردت في هذا الشأن.
قال ابن عبد ربه في العقد الفريد: (أعدل الوجوه في هذا أن يكون سبيله سبيل الشعر، فحسنه حسن، وقبيحه قبيح).2
2. الغناء المعروف اليوم لدينا، وهو ما يمارسه الفنانون المختصون، والذي يلحن ويكون مصحوباً بالآلات الموسيقية، ويختلط فيه النساء والرجال، ويرفع بمكبرات الصوت، لا شك في حرمته.
الأدلة على جواز ضرب الدف والغناء البريء في النكاح
وردت في السنة أحاديث كثيرة تدل على جواز غناء معين في النكاح، وقد مثلت السنة لذلك الغناء، وكذلك وردت أحاديث بجواز ضرب الدف وإعلان النكاح، منها:
1. عن خالد بن ذكوان قال: قالت الرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ بن عفراء: جاء النبي صلى الله عليه وسلم يدخل حين بني3 عليَّ، فجلس على فراشي كمجلسك مني، فجعلت جويريات يضربن بالدف ويندبن4 من قتل من آبائي يوم بدر، إذ قالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في غد، فقال صلى الله عليه وسلم: "دعي هذا وقولي بالذي كنت تقولين".5
2. وعن محمد بن حاطب الجمحي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فصل ما بين الحلال والحرام الصوت وضرب الدف".6
3. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ ببعض أزقة المدينة فإذا هو بجوار7 يضربن بدفهن ويغنين، ويقلن:
نحن جوار من بني النجار يا حبذا محمد من جار
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يعلم الله إني لأحبكن".8
4. وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعلنوا هذا النكاح واضربوا عليه بالغربال9".
5. وعن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يكره نكاح السر حتى يضرب بدف ويقال10:
أتيناكم أتينـــــاكم فحيونـــا نحييكـم
ولولا الذهب الأحمــر ما حلت بواديـــكم
ولولا الحنطة السمـراء ما سمنت عذاريكــم
فهذه الأحاديث وغيرها تدل على أن الغناء بمثل هذه الأشعار التي ليس فيها فحش ولا ذكر حرام، جائز أن يغني بغناء يشبه ذلك كما كان يفعل في السودان في مناسبات الأعراس، مثل:
العديل والزين أنا منـاي ليه فال الحسن وحسين رب يتم ليه
ومثل:
يا عديلة يا بيضــاء يا ملائكة سيـري معاه
وما شاكلها.
أما ما نشاهده اليوم من غناء في مناسبات الأعراس، مصحوباً بالآلات الموسيقية، والذي يؤديه فنانون مختصون، والذي يختلط فيه في الغالب الرجال والنساء، والذي يدعو صراحة للفحش والتبرج والرذيلة، والذي لا يفعله إلا من لا خلاق له، فلا شك في حرمته كما أجمع على ذلك جمهور أهل العلم من هذه الأمة سلفاً وخلفاً.
والذين يستدلون على جواز ما يمارس اليوم من الغناء بالأحاديث السابقة فهم يستدلون بحق على باطل محض، وهي كلمة حق أريد بها باطل، وهو استدلال مع الفارق الكبير، وإليك الأدلة على تحريمه من الأحاديث، والآثار، وأقوال الأئمة والعلماء المعتبرين.
ã
الأحاديث
1. عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحِرَّ11 والحرير والخمر والمعازف".12
قال ابن القيم رحمه الله معلقاً على هذا الحديث، وراداً على ابن حزم في تضعيفه له: (وهو حديث صحيح، أخرجه البخاري في صحيحه محتجاً به، وعلقه تعليقاً مجزوماً به.
إلى أن قال:
ولم يصنع من قدح في صحة هذا الحديث شيئاً، كابن حزم، نصرة لمذهبه الباطل في إباحة الملاهي، وزعم أنه منقطع لأن البخاري لم يصل سنده، وجواب هذا الوهم من وجوه).13
ثم ساق هذه الوجوه والتي مفادها أن الحديث رواه البخاري في مواطن أخرى من صحيحه متصل السند لا انقطاع فيه البتة.
قال ابن حزم في المحلى14 طاعناً في صحة هذا الحديث: (وهذا منقطع – يعني حديث البخاري السابق – ولم يتصل ما بين البخاري وصدقة بن خالد، ولا يصح في هذا الباب شيء أبداً، وكل ما فيه موضوع).
قال الحافظ ابن حجر في الفتح رداً على مطعن ابن حزم في هذا الحديث: (زعم ابن حزم أنه منقطع – أي الحديث السابق – ما بين البخاري وهشام، وجعله جواباً على الاحتجاج به على تحريم المعازف، وأخطأ في ذلك من وجوه، والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح.
والبخاري قد يفعل ذلك لكونه قد ذكر ذلك الحديث في موضع آخر من كتابه مسنداً متصلاً، وقد يفعل ذلك لغير ذلك من الأسباب التي لا يصحبها خلل).15
ونقل محقق كتاب تحريم النرد للآجُرِّي رد الهيثمي والصنعاني على ابن حزم.
قال الهيثمي في الزواجر: (إن ابن حزم حمله تعصبه لمذهبه الباطل الفاسد في إباحة الأوتار إلى أن حكم على هذا الحديث بالضعف، وكل ما ورد في الملاهي بالوضع، وقد قال بعض الأئمة الحفاظ: إن ابن حزم إنما صرح بذلك تقريراً لمذهبه الفاسد في إباحة الملاهي، وأن تعصبه لمذهبه الباطل أوقعه في المجازفة والاستهتار حتى حكم على الأحاديث الصحيحة من غير شك ولا ريبة بأنها موضوعة).16
وقال الصنعاني في توضيح الأفكار: (وأما قول ابن حزم إن كل حديث في الملاهي موضوع فليس كما قال، بل هي أحاديث منها حسن ومنها ما فيه لين، وبمجموعها يثبت بها الحكم).17
وضح من كلام هؤلاء الأئمة الجهابذة في هذا الفن أن هذا الحديث صحيح لا مطعن فيه أبداً، وكلنا يعلم حرص الإمام البخاري ودقته على ألا يكتب في صحيحه إلا ما تيقن من صحته، وقد اختار هذا الصحيح من نحو ستمائة ألف حديث، ولا ينبغي الالتفات إلى مثل هذه المطاعن التي لا تقوم على مستند وليس لها أساس إلا التعصب والانتصار للرأي.
2. الحديث الثاني عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليشربن ناس من أمتي الخمر، يسمونها بغير اسمها، يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم قردة وخنازير".18
3. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الغناء ينبت النفاق في القلب".19
ã
الآثار
أما الآثار عن الصحابة والتابعين فهي أكثر من أن تحصى، منها ما ذكره ابن القيم في إغاثة اللهفان20، نذكر منها ما يلي:
1. رُوي عن ابن عباس، وابن مسعود، وابن عمر رضي الله عنهم أن المراد بلهو الحديث في قوله تعالى: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ"21، روى ذلك عنهم الواحدي وغيره، الغناء".
2. وروي عن محمد بن الحنفية أنه فسَّر الزور الذي ورد في قوله تعالى: " وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا"22 بالغناء.
وروي ذلك عن مجاهد، وقيل هو الباطل.
3. أخرج البخاري بسنده في الأدب المفرد عن ابن عمر أنه مر على جارية تغني، فقال: "إن الشيطان لو ترك أحداً لترك هذه".23
4. قيل للقاسم بن محمد: كيف ترى في الغناء؟ فقال القاسم: هو الباطل. فقيل له: قد عرفت أنه باطل، فكيف ترى فيه؟ فقال القاسم: أرأيت الباطل، أين هو؟ قال: في النار. قال: فهو ذاك.
5. وقال رجل لابن عباس رضي الله عنهما: ما تقول في الغناء، أحلال هو أم حرام؟ فقال: لا أقول حراماً إلا ما في كتاب الله. فقال: أفحلال هو؟ فقال: لا أقول ذلك. ثم قال له: أرأيت الحق والباطل إذا جاءا يوم القيامة فأين يكون الغناء؟ فقال الرجل: يكون مع الباطل. فقال ابن عباس: اذهب فقد أفتيت نفسك.
6. وقال الفضيل بن عياض: "الغناء رقية الزنا".24
7. وقال يزيد بن الوليد: "يا بني أمية، إياكم والغناء فإنه ينقص الحياء، ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السكر، فإن كنتم لابد فاعلين فجنبوه النساء، فإن الغناء داعية الزنا".
8. وعن الحُطيْئة الشاعر المعروف أنه نزل برجل من العرب ومعه ابنته مليكة، فلما جنه الليل سمع غناء، فقال لصاحب المنزل: كف هذا عني. فقال: وما تكره من ذلك؟ فقال: إن الغناء رائد من رواد الفجور، ولا أحب أن تسمعه هذه – يعني ابنته – فإن فعلت وإلا خرجت منك.
9. وعن سليمان بن عبد الملك أنه سمع غناء من الليل في عسكره، فأرسل إليهم بكرة فجيء بهم، فقال: إن الفرس ليصهل فتستودق25 الرمكة26، وإن الفحل ليهدر فتضبع27 له الناقة، وإن التيس لينب28 فتستحرم له العنز، وإن الرجل ليغني فتشتاق له المرأة. ثم قال: أخصوهم. فقال عمر بن عبد العزيز: هذه مثلة لا تحل، فخل سبيلهم.
10. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى مؤدب ولده: ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي التي بدؤها من الشيطان، وعاقبتها سخط الرحمن، فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم أن صوت المعازف واستماع الأغاني واللهج بها ينبت النفاق في القلب كما ينبت العشب على الماء.
11. روى ابن أبي الدنيا في كتاب مصايد الشيطان، ووصله عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن إبليس لما أنزل إلى الأرض قال: يا رب أنزلتني إلى الأرض وجعلتني رجيماً، فاجعل لي بيتاً. قال: الحمام. قال: فاجعل لي مجلساً. قال: الأسواق ومجامع الطرقات. قال: فاجعل لي طعاماً. قال: كل ما لم يذكر اسم الله عليه. قال: فاجعل لي شراباً. قال: كل مسكر. قال: فاجعل لي مؤذناً. قال: المزمار. قال: فاجعل لي قرآناً. قال: الشعر. قال: فاجعل لي كتاباً. قال: الوشم. قال: فاجعل لي حديثاً. قال: الكذب. قال: فاجعل لي رسلاً. قال: الكهنة. قال: فاجعل لي مصايد. قال: النساء".
وأخيراً، أختم هذه النصوص ببيان آراء الأئمة الأربعة وأتباعهم.
قال أبو بكر الطرطوشي في خطبة كتابه في تحريم السماع29: (.. أما مالك فإنه نهى عن الغناء وعن استماعه، وقال: إذا اشترى جارية فوجدها مغنية كان له أن يردها بالعيب. وسئل مالك رحمه الله عمن يرخص فيه أهل المدينة من الغناء. فقال: إنما يفعله عندنا الفساق).
ومن العجيب حقاً أن ينسب بعض من قَلَّ علمه إلى الإمام مالك إباحته للغناء بالعود، ويعتمدون على خبر واه ذكره الخطيب البغدادي في تاريخه.30
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله رداً على هذه الشبهة الباطلة وعلى هذا الخبر المكذوب على الإمام مالك بعد أن حكى قول الإمام مالك السابق في حكم الغناء: "إنما يفعله عندنا الفساق"، قال: (وهذا نص عن مالك معروف في كتب أصحاب مالك مشهور، وهم أعرف بمذهبه وأضبط ممن ينقل عنه الغلط وعن أهل المدينة من طائفة بالمشرق لا علم لهم بمذاهب الفقهاء).
ثم قال: (ومن ذكر عن مالك أنه ضرب بالعود فقد افترى عليه).31
وقال القرطبي عن تحريم الغناء والمعازف: (هو مذهب مالك وسائر أهل المدينة إلا إبراهيم ابن سعد وحده، وأما أبو حنيفة فإنه يكره الغناء ويجعله من الذنوب، وكذلك مذهب أهل الكوفة سفيان، وحماد، وإبراهيم، والشعبي، وغيرهم، لا اختلاف بينهم في ذلك، ولا نعلم خلافاً أيضاً بين أهل البصرة في المنع منه).
قال ابن القيم: (ومذهب أبي حنيفة في ذلك أشدّ المذاهب، وقوله فيه أغلظ الأقوال، وقد صرح أصحابه بتحريم سماع الملاهي كلها كالمزمار والدف، حتى الضرب بالقضيب، وصرحوا بأنه معصية يوجب الفسق، وترد به الشهادة، وأبلغ من ذلك أنهم قالوا: إن السماع فسق، والتلذذ به كفر. وأما الشافعي فقال في كتاب "أدب القضاء": إن الغناء لهو مكروه يشبه الباطل والمحال، ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته. وصرح أصحابه العارفون بمذهبه بتحريمه.
أما مذهب أحمد فقال عبد الله ابنه: سألت أبي عن الغناء، فقال: "الغناء ينبت النفاق في القلب، لا يعجبني. ثم ذكر قول مالك: إنما يفعله عندنا الفساق. وقال عبد الله ابنه: سمعت أبي يقول: سمعت يحيى القطان يقول: لو أن رجلاً عمل بكل رخصة، بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل32 المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة، لكان فاسقاً).33
قال ابن القيم: (وقد حكى أبو عمرو بن الصلاح الإجماع على تحريم السماع الذي جمع الدف والشبابة والغناء، فقال في فتاويه: وأما إباحة هذا السماع وتحليله، فليعلم أن الدف والشبابة والغناء إذا اجتمعت فاستماع ذلك حرام، عند أئمة المذاهب وغيرهم من علماء المسلمين، ولم يثبت عن أحد ممن يعتد بقوله في الإجماع والاختلاف أنه أباح هذا السماع.
والخلاف المنقول عن بعض أصحاب الشافعي إنما نقل في الشبابة منفردة والدف منفرداً، فمن لا يحصِّل أولاً يتأمل، ربما اعتقد خلافاً بين الشفاعيين في هذا السماع الجامع هذه الملاهي، وذلك وهم بين من الصائر إليه، تنادي عليه أدلة الشرع والعقل، مع أنه ليس كل خلاف يستروح إليه ويعتمد عليه، ومن تتبع ما اختلف فيه العلماء، وأخذ بالرخص من أقاويلهم، تزندق أوكاد).